يبدو أن كرة النار الأفريقية وصلت إلى نيجيريا؛ فبعد انقلابات دول الغرب الأفريقي التي حظيت بالتأييد الروسي اشتعلت نيجيريا، مطلع أغسطس الجاري، بالاحتجاجات الشعبية المُطالِبة بتدخل موسكو وإسقاط النظام المدعوم من فرنسا والغرب.
واجهت القوات الحكومية النيجيرية المظاهرات بإطلاق النار بشكل عشوائي في شوارع المدن الثائرة، على الرغم من أنها أعلنت استخدام تدابير مناسبة لقمع العنف واعترفت بقتل متظاهر واحد فقط. لكن مدير منظمة العفو الدولية في نيجيريا عيسى سانوسي، قال، «لم يحدث أي شيء على الإطلاق خلال تلك الاحتجاجات يبرر استخدام الأسلحة النارية الحية».
وردت أنباء عن مقتل عدد من الأشخاص واعتقال ما لا يقل عن 700 متظاهر، وتعرّض الصحفيين لإطلاق النار في العاصمة أبوجا؛ إذ انطلقت حملة أمنية مُميتة بعد أن دعا الرئيس النيجيري بولا تينوبو إلى إنهاء الاحتجاجات. وقال مدير منظمة العفو الدولية في مقابلة، استعان فيها بشهادات شهود عيان وعائلات إضافة إلى التحقيق الذي أجرته المجموعة، إنه بحلول يوم الأربعاء السابع من أغسطس الجاري ، قُتل 22 متظاهراً في ست ولايات، معظمهم على أيدي الشرطة.
تعد أزمة غلاء المعيشة السبب الأبرز للاحتجاجات في هذه الدولة الأفريقية الغنية بالنفط والأكثر اكتظاظاً بالسكان (إذ يبلغ عدد سكانها 210 ملايين نسمة) وأكبر دولة إسلامية بها، التي من المتوقع بحلول عام 2050 أن تشارك الولايات المتحدة لقب ثالث أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم، بعد الهند والصين.
ثار حنق المواطنين على السياسات الاقتصادية للحكومة التي رفعت التضخم إلى نسبة 34.19%، في حين تراجعت قيمة العملة المحلية النايرا إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق مقابل الدولار، ويعاني ما لا يقل عن 63% من السكان من الفقر، فيما تستمر الحرب في شمال شرق البلاد تحت لافتة مكافحة الإرهاب.
وعلى الرغم من ثروتها النفطية فإن سكان نيجيريا من بين الأكثر جوعاً في العالم؛ إذ يمثلون 10% من العبء العالمي، وفقاً لوكالة الأغذية التابعة للأمم المتحدة، ومع ذلك فإن ساستها الذين كثيراً ما يُتهمون بالفساد يتلقون أعلى الأجور في أفريقيا تقريباً.
مما زاد من خشية السلطات من الاحتجاجات، أن تكون تكراراً للمظاهرات التي شهدتها كينيا الشهر الماضي احتجاجاً على زيادة الضرائب التي ألهمت النيجيريين.وكما فعل المحتجون الكينيون، حين أجبروا الرئيس ويليام روتو على التراجع عن زيادة الضرائب وإقالة أغلب أعضاء حكومته في يونيو 2024؛ طالب النيجيريون الرئيس بخفض رواتب حكومته ومعالجة الفساد الحكومي.
وفي حين نشرت الشرطة النيجيرية آلاف الضباط والجنود في الشوارع، نشرت القوات المسلحة شاحنات في العاصمة أبوجا، وهددت بعد اليوم الأول في الأول من أغسطس الجاري بالتدخل لقمع أي أعمال عنف، وهدد وزير الدفاع بأن الجيش سيتحرك إذا استمرت أعمال العنف. وقال رئيس أركان الجيش النيجيري الجنرال كريستوفر موسى: «لن نتهاون في ملاحقة أولئك الذين واصلوا تشجيع الاستيلاء غير الدستوري على الحكومة أو التخريب، أو أولئك الذين يمارسون التخريب أو تدمير الأرواح والممتلكات».
وكان الناشطون دعوا في البداية إلى 10 أيام من الغضب في رسائل عبر الإنترنت، بعد أن أظهرت البيانات أن التضخم السنوي بلغ أعلى مستوى له في 28 عاماً.وتدفق الآلاف إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد، ومنذ اليوم الأول من الاحتجاجات، أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود في عدة أماكن بينما وردت أنباء عن أعمال نهب وتخريب في بعض الولايات، وقال قائد الشرطة الوطنية كايود إيجبيتوكون، إن الأحداث التي وقعت في ذلك اليوم أظهرت أن ما حدث كان فوضى وأعمال نهب وليس احتجاجاً، وأعلن أن الضباط في حالة تأهب قصوى مما يعني شعور النظام بمستوى عال من التهديد.
وبينما أكّد الرئيس النيجيري بولا تينوبو الذي تولى السلطة في مايو 2023، أن الاحتجاجات تعرضت للاختطاف من قبل اللصوص في بعض المناطق، وأن إنهاء الاضطرابات من شأنه أن يخلق مساحة للحوار؛ فقد قالت وزيرة الصناعة والتجارة والاستثمار النيجيرية دوريس نكريوكا أنيتي، إن الاضطرابات تكلف الاقتصاد أكثر من 500 مليار نيرة(324.68 مليون دولار) يومياً. وتأتي الاحتجاجات بعد أن تمكنت سلسلة إضرابات كبرى، في يونيو 2024، من تحقيق مكاسب ضئيلة للحد الأدنى للأجور.
حث الرئيس النيجيري تينوبو المتظاهرين في الرابع من أغسطس الجاري، على تعليق المسيرات والدخول في حوار مع الحكومة، وقال في خطاب مُتلفز: «لقد سمعتكم بصوت عال وواضح»، وزعم أنه نجح في خفض خدمة الدين من 97% من إيرادات الحكومة إلى 68% خلال الأشهر الـ13الماضية بفضل سياساته الإصلاحية.
وبينما تستمر ميزانية الدولة في الارتفاع، يزداد النيجيريون فقراً ولا يستفيدون من هذه الإنجازات المعلنة؛ ففي نوفمبر 2023، خصّص الرئيس 38 مليون دولار لأسطول طائراته، وتجديد فيلا الرئاسة، وشراء سيارات دفع رباعي لنواب البرلمان. وفي الوقت نفسه لم ينجح الجيش في التصدي للإرهاب، فالتفجيرات التي تشنها جماعتا بوكو حرام وداعش مستمرة، رغم استمرار الجهود الحكومية لاستعادة الأمن.
كذلك رُفع دعم البنزين جزئياً، ثم أعيد فرضه، وخضعت النايرا النيجيرية لخفض قيمتها مرتين، إلى جانب ارتفاع تكاليف الكهرباء، وانقطاعها كثيراً، وفي يونيو الماضي وافق البنك الدولي على قرض بقيمة 2.25 مليار دولار لدعم الخطة المالية لتينوبو.
وقال الرئيس، إن هذه القرارات التي اتخذها كانت ضرورية بعد عقود من سوء الإدارة الاقتصادية في عهد الحكام السابقين، وأعلن موافقته على السماح للمحتجين بالسير إلى وسط أبوجا والالتقاء بهم هناك، وأعلن المحتجون أنه إذا أراد الرئيس الحوار، فليكن في ساحة النسر، بحضور جميع النيجيريين وعلى الهواء مباشرة عبر شاشات التلفزيون، وليس عبر اجتماعات سرية.
ومع اشتداد القمع تراجعت الاحتجاجات في أجزاء من البلاد، فإن الزخم استمر في ولايات كانو وكادونا وباوتشي الشمالية وريفرز الجنوبية. وأشادت حكومة ولاية لاغوس في جنوب غربي البلاد بالمحتجين لبقائهم في منازلهم، وخاطب أحد مسئولي الحكومة المتظاهرين قائلاً، «إن توقفكم للاحتجاج اليوم هو تأكيد واضح على حقيقة أنكم تعلمون أن صوتكم الجماعي قد سمعته الحكومة».
كان لافتاً خلال الاحتجاجات رفع المتظاهرين الأعلام الروسية ومطالبتهم لموسكو بالتدخل لدعمهم وإنقاذهم من هذه الحكومة، فاعتقلت السلطات العشرات بسبب التلويح بالعلم الروسي، وحذر قائد الجيش كريستوفر موسى من أن رفع أعلام دول أجنبية يعد جريمة خيانة». وأعلنت الشرطة في ولاية كادونا مصادرة ما يقرب من 40 علماً روسياً، إضافة إلى علم صيني، وقالت الشرطة الوطنية النيجيرية،إن نحو 900 متظاهر اعتقلوا بمن في ذلك مواطنون أجانب متهمون بإنتاج أعلام روسية.
وتجاهل بعض المواطنين حظر التجوال وطافوا الشوارع وهم يلوحون بالأعلام الروسية ويطالبون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالمساعدة، وانعكس هذا الشعور على تطبيق «واتساب»، إذ غيّر المحتجون صور ملفاتهم الشخصية إلى صورة العلم الروسي، وبعضهم كتب عليها «راشا أووا»، والتي تعني «روسيا أمّنا» بلغة الهوسا (إحدى أكبر المجموعات الإثنية في البلاد). ونشر آخرون صوراً ساخرة قائلين، «نحن النيجيريين نموت جوعاً وقادتنا لا يبالون. أرجو من الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أن يهب لمساعدتنا».
وبغض النظر عن الأوضاع الداخلية، فإن المطالبات الشعبية بالتدخل الروسي تُقلِق بشدة الدول الغربية؛ إذ نجحت موسكو خلال السنوات الماضية في توسيع نفوذها في غرب القارة السمراء، بينما تسود روح الاستياء –بشكل متزايد- من النفوذ الغربي في المنطقة التي تضم عدداً من الشعوب الإسلامية. وتحظى السياسات الاقتصادية للحكومة النيجيرية بدعم الدول الغربية وصندوق النقد والبنك الدولي، بينما تتعلق أبصار المحتجين بروسيا لإنقاذهم من النظام الموالي للغرب.
وقد شهدت الدول الإسلامية الثلاث المجاورة لنيجيريا، مالي والنيجر وبوركينا فاسو، انقلابات عسكرية مدعومة من موسكو، وطردت هذه الدول القوات الفرنسية والأمريكية، وبدأت تعاونا عسكريا مع موسكو، واستقبلت ميليشيات فاغنر الروسية. وفي يوليو الماضي أعلن قادة تحالف دول الساحل، بوركينا فاسو والنيجر ومالي، إنشاء كونفيدرالية دول الساحل وهو التزام متبادل بين الدول الثلاث بمساعدة بعضها عسكرياً، في حال وقوع هجوم على أي منها.
وكانت نيجيريا مرشحة للتدخل عسكريا ضد النيجر بعد انقلاب يوليو 2023، بصفتها تتزعم مجموعة إيكواس، وهي مجموعة مدعومة من فرنسا تضم دول غرب أفريقيا غير العربية، وسبق أن تدخلت المجموعة في غامبيا عام 2017 عندما رفض الرئيس المنتهية ولايته، يحيى جامح تسليم السلطة للفائز في الانتخابات، وتدخلت في توغو عام 2005، للإطاحة بنجل الرئيس سينغبي الذي استولى على السلطة بعد وفاة والده، وأجبرته على الاستقالة، ولها تدخلات عديدة أخرى.
لكن وقوف مالي وبوركينا فاسو بجانب الانقلابيين في النيجر العام الماضي منع نيجيريا من التدخل عسكرياًضدهم. واليوم تجد نيجيريا نفسها الهدف الأحدث لعاصفة الاحتجاجات المؤيدة لموسكو، رغم نفي السفارة الروسية أي علاقة لها بما يحدث.
يبدو أن نجاح روسيا في مد نفوذها في منطقة الجوار النيجيري، ونجاح مالي والنيجر وبوركينا فاسو في التخلص من الوجود الغربي ألهم الشعب النيجيري بإمكانية اللحاق بركب هذه الموجة الجديدة المناهضة للاستعمار الغربي،اعتماداً على حليف قوي وموثوق مثل موسكو، في ظل شيوع النظرة للغرب بأنه مسئول عن إفقار بلادهم. وتتمتع روسيا هناك بسمعة طيبة صنعتها ماكينة دعائية قوية فعلت في أفريقيا ما لم تفعله المدافع والصواريخ، وكتبت فصل النهاية لقرون من النفوذ الاستعماري الفرنسي، لكن يبدو أنها بداية لدخول مستعمر جديد.